فصل: تفسير الآيات (44- 52):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{فلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُون (38) وما لا تُبْصِرُون (39)}
الفاء هنا لتفريع إثبات أن القرآن منزل من عند الله ونفي ما نسبه المشركون إليه، تفريعا على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من التعريض بتكذيب القرآن الذي أخبر بوقوعه، وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم القائل إنه موحى به إليه من الله تعالى.
وابتدئ الكلام بالقسم تحقيقا لمضمونه على طريقة الأقسام الواردة في القرآن، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {والصافات صفا} [الصافات: 1].
وضمير {أُقسم} عائد إلى الله تعالى.
*جمع الله في هذا القسم كل ما الشأن أن يُقسم به من الأمور العظيمة من صفات الله تعالى ومن مخلوقاته الدالة على عظيم قدرته إذ يجمع ذلك كله الصِلتان {بما تبصرون وما لا تبصرون}، فمما يبصرون: الأرض والجبال والبحار والنفوس البشرية والسماوات والكواكب، وما لا يبصرون: الأرواح والملائكة وأمور الآخرة.
و{لا أقسم} صيغة تحقيققِ قسم، وأصلها أنها امتناع من القسم امتناع تحرّج من أن يحلف بالمُقْسممِ به خشية الحنث، فشاع استعمال ذلك في كل قسم يراد تحقيقه، واعتبر حرف (لا) كالمزيد كما تقدم عند قوله: {فلا أقسم بمواقع النجوم} في سورة الواقعة (75)، ومن المفسرين من جعل حرف (لا) في هذا القسم إبطالا لكلام سابق وأنّ فعل {أُقْسِم} بعدها مستأنف، ونُقض هذا النوع بوقوع مثله في أوائل السور مثل: {لا أقسم بيوم القيامة} [القيامة: 1] و{لا أقسم بهذا البلد} [البلد: 1].
وضمير {إنه} عائد إلى القرآن المفهوم من ذكر الحشر والبعث، فإن ذلك مما جاء به القرآن ومجيئه بذلك من أكبر أسباب تكذيبهم به، على أن إرادة القرآن من ضمائر الغيبة التي لا معاد لها قد تكرر غير مرة فيه.
وتأكيد الخبر بحرف (إنّ) واللاممِ للرد على الذين كذبوا أن يكون القرآن من كلام الله ونسبوه إلى غير ذلك.
والمراد بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم كما يقتضيه عطف قوله: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل} [الحاقة: 44]، وهذا كما وصف موسى بـ رسول كريم في قوله تعالى: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم} [الدخان: 17] وإضافة {قول} إلى {رسول} لأنه الذي بلّغه فهو قائله، والإِضافة لأدنى ملابسة وإلاّ فالقرآن جعله الله تعالى وأجراه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم كما صدر من جبريل بإيحائه بواسطته قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [مريم: 97].
روي مقاتل أن سبب نزولها: أن أبا جهل قال: إن محمدا شاعر، وأن عقبة بن أبي مُعيط قال: هو كاهن، فقال الله تعالى: {إنه لقول رسول كريم} الآية.
ويجوز أن يراد بـ {رسول كريم} جبريل عليه السلام كما أريد به في سورة التكوير إذ الظاهر أن المراد به هنالك جبريل كما يأتي.
وفي لفظ {رسول} إيذان بأن القول قول مُرسله، أي الله تعالى، وقد أكد هذا المعنى بقوله عقبه {تنزيل من رب العالمين}
ووصف الرسول بـ {كريم} لأنه الكريم في صنفه، أي النفيس الأفضل مثل قوله: {إني أُلقي إليّ كتاب كريم} في سورة النمل (29).
وقد أثبت للرسول الفضل على غيره من الرسل بوصف {كريم}، ونفي أن يكون شاعرا أو كاهنا بطريق الكناية عند قصد رد أقوالهم.
وعطف {ولا بقول كاهن} على جملة الخبر في قوله: {بقول شاعر} و{لا} النافية تأكيد لنفي {ما}.
وكني بنفي أن يكون قول شاعر، أو قول كاهن عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعرا أو كاهنا، رد لقولهم: هو شاعر أو هو كاهن.
وإنما خص هذان بالذكر دون قولهم: افتراه، أو هو مجنون، لأن الوصف بكريم كاف في نفي أن يكون مجنونا أو كاذبا إذ ليس المجنون ولا الكاذب بكريم، فأما الشاعر والكاهن فقد كانا معدودين عندهم من أهل الشرف.
والمعنى: ما هو قول شاعر ولا قول كاهن تلقاه من أحدهما ونسبه إلى الله تعالى.
و{قليلا} في قوله: {قليلا ما تؤمنون قليلا ما تذكّرون} مراد به انتفاء ذلك من أصله على طريقة التمليح القريب من التهكم كقوله: {فلا يؤمنون إلاّ قليلا} [النساء: 46]، وهو أسلوب عربي، قال ذو الرمة:
أُنيحتْ ألْقتْ بلْدة فوق بلْدةٍ ** قلِيلٍ بها الأصواتُ إلاّ بُغامُها

فإن استثناء بُغام راحلته دل على أنه أراد من (قليل) عدم الأصوات.
والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون، أي عندما تقولون هو شاعر وهو مجنون، ولا نظر إلى إيمان من آمن منهم من بعدُ.
وقد تقدم في سورة البقرة (88) قوله: {فقليلا ما يؤمنون}
وانتصب قليلا في الموضعين على الصفة لمصدر محذوف يدل عليه {تؤمنون} و{تذكّرون} أي تؤمنون إيمانا قليلا، وتذكّرون تذكرا قليلا.
و{ما} مزيدة للتأكيد كقول حاتم الطائي:
قليلا به ما يحْمدنّك وارث ** إذا نال مما كنت تجمع مغْنما

وجملتا {قليلا ما تؤمنون قليلا ما تذّكّرون} معترضتان، أي انتفى أن يكون قول شاعر، وانتفى أن يكون قول كاهن، وهذا الانتفاء لا يحصِّل إيمانكم ولا تذكركم لأنكم أهل عناد.
وقرأ الجمهور {ما تؤمنون وما تذكرون} كليهما بالمثناة الفوقية، وقرأهما ابن كثير وهشام عن ابن عامر (واختلف الرواة عن ابن ذكوان عن ابن عامر) ويعقوبُ بالياء التحتية على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وحسّن ذلك كونُهما معترضتين.
وأوثر نفي الإِيمان عنهم في جانب انتفاء أن يكون قول شاعر، ونفي التذكُّر في جانب انتفاء أن يكون قول كاهن، لأن نفي كون القرآن قول شاعر بديهي إذ ليس فيه ما يشبه الشعر من اتزان أجزائه في المتحرك والساكن والتقفية المتماثلة في جميع أواخرِ الأجزاء، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمّد ينادي على أنهم لا يُرجى إيمانهم، وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبّه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن، فنظمُه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقرأته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإِخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم.
وقوله: {تنزيل من رب العالمين} خبر ثان عن اسم (إنّ) وهو تصريح بعد الكناية.
ولك أن تجعل {تنزيل من رب العالمين} خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ، وتجعل الجملة استئنافا بيانيا لأن القرآن لمّا وصف بأنه {قول رسول كريم} ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن، ترقّب السامع معرفة كنهه، فبُين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
و{تنزيل} وصف بالمصدر للمبالغة.
والمعنى: إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم.
وعبر عن الجلالة بوصف {ربّ العالمين} دون اسمِه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين وربُ الشعراءِ والكهاننِ الذين كانوا بمحل التعظيم والإِعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون {ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين} [الشعراء: 26]. اهـ.

.تفسير الآيات (44- 52):

قوله تعالى: {ولوْ تقول عليْنا بعْض الْأقاوِيلِ (44) لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ (45) ثُمّ لقطعْنا مِنْهُ الْوتِين (46) فما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين (47) وإِنّهُ لتذْكِرةٌ لِلْمُتّقِين (48) وإِنّا لنعْلمُ أنّ مِنْكُمْ مُكذِّبِين (49) وإِنّهُ لحسْرةٌ على الْكافِرِين (50) وإِنّهُ لحقُّ الْيقِينِ (51) فسبِّحْ بِاسْمِ ربِّك الْعظِيمِ (52)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان قد بقي من الأقسام التي كانوا يتقولونها عليه الافتراء في الرسالة بمعنى أنه عثر على بعض كتب الله تعالى التي نزلت على من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فانتحلها من غير أن يوحى إليه، وكان الدليل على أن ذلك ليس كذلك أن العادة تحيل أن يطلع شخص من الناس على شيء لم يطلع أحد منهم ولاسيما إن كان ذلك الشخص قليل المخالطة للعلماء فكيف إذا كان أميا لا يكتب ولا يقرأ كما كان صلى الله عليه وسلم، قال عاطفا على ما تقديره: فلو لم يكن تنزيل رب العالمين عليه لم يعجزوا عنه: {ولو تقول} أي كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذبا {علينا} على ما لنا من صفات العظمة والجلال والبهاء والكمال والكبرياء {بعض الأقاويل} التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها، وهو جمع أفعولة من القول كالأضاحيك جمع أضحوكة، لا جمع أقوال، ليكون جمع الجمع، لأنه يلزم عليه أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال {لأخذنا} أي بعظمتنا أخذ قوة وغضب وقهر وإهلاك، وأكده للإعلام بشدة الغضب من الكذب وشدة قبحه.
ولما كان أخذه أخذا يتلاشى عنده كل أخذ لأن من افترى على الملوك لا يفعل به إلا ذلك قال: {منه} أي خاصة {باليمين} أي التي هي العضو الأقوى منه فيها يكون بطشه فنذهبه بشدة بطشنا، أو اليمين منا، فيكون كناية عن أخذنا له بغاية القوة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وقيل: إذا أراد الملك إهانة شخص قال: خذه يا فلان، فيأخذه بيمينه، فهو كناية عن الإذلال، وقيل: هذا تصوير قتل الصبر بأشنع صورة، فإن الملك إذا أراد التخفيف على من يقتله أمر السياف فأخذ يساره بيساره، وضرب بالسيف من ورائه لأن العنق من خلف أوسع فيكون أسرع قطعا ولا يرى المقتول لمع السيف، وإن أراد التعذيب والمبالغة في الإهانة أخذ يده اليمنى بيده اليسرى وضربه وهو مستقبل له يرى لمع السيف، وربما وقعت الضربة لضيق المجال من قدام في حنكه فيحتاج إلى ثانية وثالثة فهو أفحش.
ولما صور مبدأ الإهلاك بأفظع صورة، أتمه مشيرا إلى شدة بشاعته بحرف التراخي فقال: {ثم لقطعنا} حتما بلا مثنوية بما لنا من العظمة قطعا يتلاشى عنده كل قطع {منه الوتين} أي العرق الأعظم في العنق الثابت الدائم المتين الذي يسمى الوريد، وهو بين العلباء والحلقوم، وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أنه نياط القلب، وفي القاموس: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه- انتهى.
واختير التعبير به لأن مادته بهذا الترتيب تدور على المتانة والدوام، فلذا كان يفوت صاحبه بفواته، وقال ابن برجان: عرق متصل بنياط القلب مستبطن للصلب يملأ الجسد كله تسقيه الكبد وهي بيت الدم وهو يجري منها الدم في البدن يأخذ منه ستون عرقا هي أنهار الدم في الجسد كله، من هذه الأنهار تأخذ الجسد ثمانية عشر تسقي الصدر، وسبعة تسقي العين، وأربعة تسقي الدماغ، والوتين من مجمع الوركين إلى مجمع الصدر بين الترقوتين، ثم ينقسم عنه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه، وفي المائدة عند قوله {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] ما ينفع هنا.
ولما أتم تصوير ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه من أن يأخذ السيئات أو أعوانه بيمينه ويكبحه كالسيف فيضربه عنقه، سبب عنه قوله إتماما لعظمته بقوله: {فما منكم} أي أيها الناس، وأعرق في النفي فقال: {من أحد عنه} أي القتل أو المقتول المنقول، ولما كان {أحد} عاما حقق عمومه واصفا له، وأخبر عن (ما) على لغة الحجاز بقوله: {حاجزين} أي يكون حاجزا جزما كثيفا مانعا من الوصول إليه فلا غرض يتعلق من عاقل أن ينصح لأحد بنصيحة تعود إلى المنصوح وحده بالنفع ولاحظ للقائل فيها بكذب يكلف نفسه تقوله على ملك لا يقدر ذلك المنضوح أن يحميه من عقوبته على ذلك الكذب، واختار الإخبار بالجمع لأنه يدل على عدم حجز الفرد من باب الأولى و{منكم} حال لتقدمه، وهذا كله كناية على أبلغ الوجوه عن أن هذا الذكر كلام الله لا شبهة فيه بوجه، مضموما ذلك إلى وجوه إعجازه، فإن {لو} لامتناع الثاني لأجل امتناع الأول، فالتقدير كما يقال في القياس الاستثنائي: لكنا لم نأخذه هذا الأخذ فثبت أنه ما تقول علينا شيئا، فثبت أن ما قال كلامنا ثبوتا تاما بالبرهان على وجه لا يرام نقضه.
ولما كان هذا كناية عن هذا من غير نظر إلى حقائق مفرداته ولا معنى شيء منها على انفراده، فكان كأنه قيل: تنزيل من رب العالمين غير متخيل فيه الكذب بوجه، عطف على ذلك قوله: {وإنه} أي القرآن بعد أن كان ذكرا لجميع العالمين {لتذكرة} أي مذكر عظيم جدا {للمتقين} أي من العالمين لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد.
ولما علم من هذا أنه سبحانه عالم بقسمي المسيء والحسن ظواهرهم وبواطنهم، صرح بالقسم الآخر، فقال مؤكدا لأجل إنكار الضلال: {وإنا} أي بما لنا من العظمة {لنعلم} أي علما عظيما محيطا {أن منكم} أيها الأرضيون السفليون الذين ليس لهم أهلية العلو إلى تجريد الأرواح عن علائق الجسد الكثيفة {مكذبين} أي عريقين في التكذيب فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل ليظهر منكم إلى عالم الشهادة منها ما كنا نعمله في الأزل غيبا من تكذيب وإيمان فتستحقون بذلك العقاب أو الثواب، فلذلك وجب في الحكمة التي لا يكذب بها أحد ولا يشك في أنها خاصة الملك المظهرة للكمال أن يعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاّ بما يليق به إظهارا للعدل.
ولما كان سبب التكذيب ستر ما تجليه مرائي العقول من الدلائل، وكان التقدير: فإنه بشرى للمؤمنين، ولكنه طواه لأن السيق للتهديد بالحاقة، عطف عليه قوله مؤكدا لما لهم من التكذيب به، {وإنه} أي القرآن العظيم {لحسرة} أي بما يرى من تأويله في الدنيا والآخرة {على الكافرين} أي العريقين في الكفر لكونهم كذبوا به لما يظهر لهم من جزائهم وجزاء المؤمنين.
ولما كان كل من الفريقين يذوق جزاءه في الآخرة، ه وكان كل أحد سمع القرآن ذاق أنه لا يقدر على الإتيان بشيء يماثله ولا يدانيه، قال مؤكدا تنزيلا لهم في عداد الجاهلين: {وإنه} أي القرآن أو الجزاء في يوم الجزاء {لحق اليقين} أي الأمر الثابت الذي يذاق فيصير لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق.
من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهو فوق علم اليقين، وفي ذلك إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتحقق لذلك معرفة الحق فيكون مشاهدا للغيوب كمشاهدة المرئيات لما يشاهد من أمثالها، فأمر البعث يشاهد كل يوم في الليل والنهار وفي العام في النبات وغير ذلك.
ولما كان البعث لهذا المقصد من أعظم الكمال، وكان عدمه موجبا للنقص، سبب عن كلا الأمرين إشارة وعبارة قوله آمرا بعد الإخبار في أول المسبحات: {فسبح} أي أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص {باسم} أي بسبب علمك بصفات {ربك} أي الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان {العظيم} الذي ملأت الأقطار كلها عظمته، وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول لاسيما عن قولهم: لن يعيدنا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على ذلك لا يعجزه شيء، وقد وعد بذلك وهو صادق الوعد، وعدم البعث مخل بالحكمة لظلم أكثر الناس، وفيه إشارة إلى المتاركة، وتعجيب من حالهم في تصميمهم على الكذب والعناد، والجلد على الجدل والفساد، فقد رجع آخر السورة على أولها بإحقاق الحاقة لنفي ما وقع الخبط فيه في دار الاحتجاب بالأسباب من مواقع النقص ومظنات اللبس، فيثبت الحق وينفي الباطل فيفرق بين المحسن والمسيء والسعيد والشقي، فيحق السلام لحزب الرحمن، ويثبت الهلاك لأصحاب الشيطان، ويظهر اسمه الظاهر لكل مؤمن وكافر، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب والله الهادي. اهـ.